عبر التاريخ الإنسانى كان العلم والتكنولوجيا بمثابة العمود الفقرى للابتكارات، التى قادت عملية التنمية الاقتصادية. ومن الغريب أنه لم يتم استحضارهما إلى وقتنا هذا بصورة جدية فى النشاط الدبلوماسى. فى هذه المقالة نتناول أهمية دور العلم فى الدبلوماسية والقوة الناعمة للعلم فى الشئون الدولية، وفى تحقيق السلام.
على الرغم من أن العالم قد مر باضطرابات اقتصادية وسياسية ودينية فإن العلم كان له عبر التاريخ تأثير دائم فى تحسين حياة البشر. وبصرف النظر عن دور العلم المركزى فى تحريك أسواق العالم، وباعتباره لغة عالمية للاتصالات، لم يتم استدعاؤه بشكل جدى فى الدبلوماسية.
هناك تفكير جديد حيث يمكن أن تتوافر لبرنامج المبعوث العملى، الذى وضع الرئيس باراك أوباما خطوطه العريضة العام الماضى فى خطاب القاهرة التاريخى، إمكانية إعادة تحديد دور العلم فى المنظومة الدبلوماسية عموما، وتحديد بداية جديدة مع العالم الإسلامى، الذى يضم 1.5 مليار نسمة، وربما يصبح مصطلح «Scientopolihcs» «السياسة العلمى» من أساسيات قاموس الدبلوماسية. ولكن قبل عرض رؤيتى فى هذا الموضوع يجب أولا أن ننظر إلى حالة العالم والعلم والدروس المستفادة من تجارب التاريخ.
النظام العالمى
كان عالم ما بعد الحرب العالمية الأولى، الذى وصف بأنه «الزمن الجميل»، واحدا من عهود السلام والازدهار. كانت المستويات المادية للحياة فى ارتفاع، وازدهرت الديمقراطية، وتم ربط القارات من خلال السكك الحديدية، والسفن البخارية، والسيارات، والطائرات والتلغراف والتليفون. وغزا الإنسان آخر الأراضى المجهولة «القطبين الشمالى والجنوبى» فى العالم، واستمرت الولايات المتحدة تمثل أرضا موعودة بالنسبة للملايين. وكرمت منجزات العلوم والأدب والسلام من خلال جائزة نوبل عام 1901. وفى كل هذا لعبت العلوم والتكنولوجيا دورا حيويا فى هذا التقدم.
فى التسعينيات، بدا العالم جميلا مرة أخرى، فقد اتخذ التعاون الاقتصادى والسياسى الأوروبى بعدا جديدا مع تأسيس الاتحاد الأوروبى، وأصبح للصين واليابان والبلدان الأخرى المعروفة بالنمور الآسيوية دور كبير فى التنمية الاقتصادية على مستوى العالم. وفى عام 1989 كان لإعادة توحيد ألمانيا أمل جديد للعالم فى التضامن مع نهاية عهد الانعزال. كما تم التخلى عن سياسة الأبارتهيد فى جنوب أفريقيا، وكان يبدو أن عالم الحرب العالمية والتسلح النووى تغير إلى «عالم العولمة». ومرة أخرى، كان العلم والتكنولوجيا القوة المحركة.
فقد جعلت تكنولوجيا المعلومات العالم أكثر قربا من حيث المسافة والزمن؟، مما دفع توماس فريدمان إلى تسمية كتابه، «العالم مسطحا»، وحولت الاكتشافات والابتكارات العلمية ظروف الإنسان، من خلال تحسين الاتصالات والصحة، وأدت إلى تطورات ثورية، بما فيها الرؤية الميكروسكبية المباشرة لعالم النانو، والرصد التلسكوبى لأبعاد شاسعة، وهبوط الإنسان الآلى على المريخ pragraph جديد. ولا أقول بهذا إن العالم صار مثاليا. فالصراعات ما زالت تشتعل، والأمراض تتزايد فى بعض بلدان العام، ويتواصل انتهاك حقوق الإنسان.
ورغم ذلك، تهدف الآن دول العالم إلى الوحدة عبر التفاهم والتعاون.
عالم الذين لا يملكون
وبصرف النظر عن التقدم، فإن توزيع الثروة غير عادل. إذ يتمتع 20٪ من سكان العالم بمزايا المعيشة فى عالم متقدم، وتتزايد الفجوة بين من يملكون ومن لا يملكون بشكل متواصل.
ففى دراسة سابقة أكد البنك الدولى أن سكان الأرض البالغ عددهم 6 مليارات نسمة، يعيش منهم 4.8 مليار نسمة فى الدول النامية، بينما يعيش 3 مليارات نسمة على أقل من دولارين فى اليوم، و1.2 مليار يعيشون على أقل من دولار فى اليوم، وهو الحد الأدنى لمقياس الفقر، كما يوجد نحو 1.5 مليار نسمة ليست لديهم فرص الحصول على المياه النقية ويعانون مضاعفات الأمراض، التى تنشأ عن الماء الملوث هذا فى مجتمع دولى يبلغ نصيب الفرد فى بعض بلدان الغرب المتقدمة من إجمالى الناتج المحلى 50 ألف دولار أو أكثر مقارنة مع 1000 دولار أو أقل سنويا فى البلدان المتخلفة.
فى نهاية الأمر تسهم هذه الفروق الكبيرة بين مستويات المعيشة بين من يملكون ومن لا يملكون فى إثارة الاستياء والعنف والصراعات العنصرية والعرقية. ومن الناحية السياسية، هناك عوامل أخرى تشيع الإحباط بين السكان الذين لا يملكون، من بينها المعايير المزدوجة التى كثيرا ما تظهر فى حل النزاعات الدولية، وفى تأييد الأنظمة غير الديمقراطية أو حتى الفاسدة سعيا إلى تحقيق مكاسب وطنية اقتصادية أو سياسية. وليس من العدل أن نلوم ببساطة، الذين يملكون بسبب مشكلات الذين لا يملكون، إذ إن هناك مسائل سياسية واقتصادية وثقافية جوهرية ترتبط بالأمر. ورغم ذلك، فمن مصلحتنا جميعا أن نعمل على تحقيق العدل والسلام العالمى عبر الفوائد المتبادلة، وهنا يجب أن نسأل: هل يستطيع العلم أن يلعب فى ذلك دورا أساسيا؟
الشراكة العالمية من خلال العلم
من الواصح أن النظام العالمى فى حاجة إلى سياسة شراكة مترابطة وشاملة Coheunt and conpehensive، خاصة بين العالمين المتقدم والنامى. ومن وجهة نظرى، يجب أن يكون التعليم والعلم حجر الزاوية فى هذه السياسات، حيث إن لها أهمية قصوى فى تحقيق التقدم والازدهار. كما أنهما الأداتان اللتان بإمكانهما تيسير التحالف بين الثقافات والشعوب، لأن العلم يمثل اللغة العالمية، التى لا يمكن أن تتلون بالعرق أو الثقافة. وليس من المستحيل أن نعلم كل أطفال العالم، فسوف يفتح تحقيق ذلك أبوابا جديدة للفرص الاقتصادية، والمشاركة فى الحكم الديمقراطى، وبناء مجتمعات قائمة على المعرفة.
وفى الحقيقة لقد صار العالم المتقدم على ما هو عليه بسبب قوته العلمية والتكنولوجية. إذا يبلغ إسهام الولايات المتحدة فى الاقتصاد العالمى السنوى نحو 30٪، وهو يماثل نصيبها فى المنتجات العلمية على الصعيد العالمى. ويبلغ الناتج الاقتصادى الأوروبى الشىء نفسه، وبالمثل يوجد الارتباط بين نسبة الإنتاج والإسهام العملى والتكنولوجى. ولا يرجح أن يكون هذا الارتباط مصادفة. ففى هذا القرن يستأثر المجتمع القائم على المعرفة بنصيب الأسد من الاقتصاد العالمى، وللأسف فإن بلادا كثيرة ليست واقعة على خريطة البحث والمعرفة، فكما أشار كوفى أنان السكرتير العام السابق للأمم المتحدة، «نشأ 95٪ من العلوم الحديثة فى العالم فى بلدان تشكل خمس التعداد العالمى فقط»، وأضاف: «معظم هذه العلوم فى مجال الصحة، على سبيل المثال تتجاهل المشكلات، التى يعانى منها غالبية سكان العالم».
إذا كنا مدركين لهذه الاتجاهات ونفهم المشكلات، التى تحول دون التقدم، فلماذا إذن توجد مثل هذه الصعوبات فى بناء القدرات العلمية فى العالم النامى، وفى تسخير العلم من أجل تحسين الرفاهية الاقتصادية؟ لا يمكن إنكار أن البلدان النامية لديها تحدياتها ومسئولياتها السياسية والثقافية الخاصة بها، ولكن الإجابة عن السؤال، تأتى جزئيا من حقيقة أن العلم لم يحظ بمكانة مركزية فى السياسة الخارجية للبلدان المتقدمة. وبرغم أن الولايات المتحدة من خلال وكالتها للتنمية الدولية USAID والوكالات الأخرى قد وفرت تمويلا ذا أهمية من أجل مشروعات متنوعة فى الدول النامية، لكن هناك حاجة إلى أسلوب وفكر جديد لإشراك العلم فى الدبلوماسية.
مبعوثو العلم
تحدث الرئيس أوباما فى خطاب القاهرة 4 يونيو من العام الماضى، عن «بداية جديدة» مع البلدان ذات الأغلبية المسلمة، وإلى جانب القضايا السياسية المرتبطة بذلك، تناول الرئيس قضايا وثيقة الصلة بالتنمية، والتعليم والعلوم والتكنولوجيا. وتضمنت المبادرة بشكل خاص: «1» إنشاء صندوق جديد لدعم التطورات التكنولوجية والمساعدة فى نقل وتوظيف التكنولوجيا إلى السوق المحلية والعالمية، «2» افتتاح «مراكز التميز» من أجل التطوير فى العلم والتكنولوجيا فى أفريقيا والشرق الأوسط، وبلدان جنوب آسيا، «3» تعيين مبعوثين علميين من أجل بناء شراكة جديدة وتحديد فرص جديدة للتعاون بين الولايات المتحدة وبلدان العالم الإسلامى.
وقد أعلنت السيدة هيلارى كلينتون وزيرة الخارجية، برنامج المبعوث العلمى فى 3 نوفمبر 2009 فى المغرب. وطلب منى أن أكون المبعوث العلمى للولايات المتحدة إلى الشرق الأوسط، وأصبح زميلان لى هما إلياس زرهونى وبروس ألبرت مبعوثين إلى منطقة المغرب فى شمال أفريقيا وبعض البلدان الخليجية، وبلدان جنوب آسيا على التوالى. وفى يناير من عامنا هذا، زرت مصر «أكثر البلدان تعدادا فى العالم العربى حيث بها 80 مليون نسمة، ومتوسط نصيب الفرد من الناتج المحلى الإجمالى 2500 دولار»، تركيا «75 مليون نسمة ومتوسط الناتج المحلى 10.000 دولار للفرد»، ودولة قطر الخليجية «1.5 مليون نسمة، منهم 0.3 مليون قطرى، ومتوسط نصيب الفرد من الناتج المحلى الإجمالى نحو 100000 دولار». وفى هذه الدول، كانت اللقاءات كثيرة وتضمنت زيارات مع مسئولين حكوميين «أمير الدولة، ورئيس الوزراء، ووزراء، وبعض أعضاء البرلمان»، وأشخاص من قطاع التعليم «مدرسون وطلاب وأساتذة جامعة» وجامعات التعليم العالى والبحث «خاصة وحكومية»، ورواد القطاع الخاص «اقتصاديون ورجال صناعة وكتاب» وبعض ممثلى مؤسسات النشر والإعلام.
ونتائج هذه الزيارات تثير المخاوف، لكنها تتيح فى الوقت نفسه، فرصا جديدة للولايات المتحدة لمعالجة القضية الأساسية فيما يتعلق بالمساعدات الأجنبية والشراكة، من خلال إدخال «العلم فى الدبلوماسية». ويأتى الجانب المخيف نتيجة لكون التعليم فى كثير من البلدان ذات الأغلبية المسلمة قد تخلف كثيرا عندما يقاس بالمعايير الدولية، ولا تدخل الجامعات، بما فيها البارزة «كجامعة القاهرة»، ضمن أفضل 500 جامعة حسب نظام الترتيب، الذى وضعته جامعة شنجهاى. ويتناقض الموقف الحالى تناقضا جذريا مع نظام المدارس والجامعات فى الستينيات، حيث استفدت شخصيا من هذا النظام التعليمى الممتاز، الذى كان قائما فى مصر. وقد أصبح هذا الترتيب الضعيف عالميا، والأداء الضعيف فى أسواق العالم، إلى جانب المصاعب الاقتصادية، التى تشعر بها الأغلبية وقلة فرص العمل المتاحة أمام الشباب، سببا للإحباط واليأس. وهذا الوضع هو نتاج للمشكلات السياسية والاجتماعية، ويزيد من حدته الزيادة السكانية والتصلب غير المستنير فى استخدام الدين لحجب المعرفة.
ومن الناحية الإيجابية، تحقق بعض البلدان ذات الأغلبية المسلمة، مثل تركيا وماليزيا تقدما ملموسا فى مجال التعليم، ومصر ما زالت غنية بثروتها البشرية، وما زالت مؤهلة لحمل لواء البحث والتطوير فى العالم العربى، وقد رأيت فى كل من تركيا وماليزيا وقطر ثمار نظام التعليم الحديث وزرت بعض مؤسسات الأبحاث والتطوير الرائدة. هذا بالرغم من أن هذا التقدم قد يكون مقصورا على بعض المؤسسات، ولا يعكس بالضرورة نظام المدارس والجامعات فى البلدان ككل، لكن الأثر واضح على إجمالى دخلها المحلى والتقدم الاجتماعى، وهذه المؤشرات تؤكد أن البلدان ذات الأغلبية المسلمة قادرة فى عالم اليوم، على تحقيق التقدم.
فى الوقت الراهن، تشهد صورة الولايات المتحدة فى الدول ذات الأغلبية السكانية المسلمة توجها إيجابيا، وفى حقيقة الأمر، أدى الخطاب الذى أدلى به الرئيس أوباما من القاهرة إلى تفاؤل فى العالم الإسلامى، وأصبحت الأغلبية تأمل فى صدق نواياه لأجل بداية جديدة. ولكن يدرك البعض ممن قابلتهم تعقيدات النظام السياسى الأمريكى، ويعتقدون أن النتائج فى النهاية تتوقف على قرارات يتخذها الكونجرس، وهذه لن تعكس فى نهاية المطاف رؤية الرئيس. وقد استقبل إعلان تأسيس برنامج المبعوث العلمى بحفاوة، باعتباره يعبر عن مفهوم الشراكة. ومع ذلك، فقد تشكك البعض وطرحوا السؤال التالى: هل يؤدى هذا البرنامج إلى إحداث نقلة نوعية فى الشراكة والسياسة؟ وبالرغم من هذه التحفظات، فإننى أعتقد أن لدينا فرصا حقيقية لاستحضار العلم فى الدبلوماسية، وتطوير مستويات جديدة للتعليم، والمساعدة على التنمية فى العالم الإسلامى.
العلم والتكنولوجيا فى الدبلوماسية
من الملاحظ أنه خلال جميع الاجتماعات المرتبطة ببرنامج المبعوث، كان هناك إجماع على الحاجة إلى تطوير العلم والتكنولوجيا، وبرز أمل فى أن تلعب الولايات المتحدة دورا قياديا فى ذلك. فما زالت الولايات المتحدة مثار إعجاب الشباب والمؤسسات العلمية والقطاع الخاص. وبالرغم من تنوع الآراء التى ترددت على مسامعى بشأن السياسة الخارجية الأمريكية إزاء القضايا، التى تهم الشرق الأوسط، كان هناك اتفاق تام حول أهمية العلم فى الدبلوماسية.
وفى هذ الصدد، أعتقد أن على الولايات المتحدة استخدام واحدة من أفضل عملاتها Currenca وهو العلم فى السياسة الخارجية. وتتسم الجهود الحالية التى تبذلها الهيئات الحكومية «كالمركز الوطنى للصحة والمؤسسة الوطنية للعلوم» والمؤسسات الخاصة بالتجزئة «Fragmentation»، وبالرغم من أن برنامج الوكالة الأمريكية الدولية للتنمية يقدم الدعم للعديد من المناطق، ويحقق نشاط هذا البرنامج بعض الأعمال الإيجابية لكنه يجب إعادة رسم المنظومة المتعلقة بالمساعدات الخارجية، بحيث يقوم بالتركيز على التعليم واقتصاديات السوق الحرة وخلق فرص عمل جديدة. ويجب على الولايات المتحدة أيضا تعزيز دور السفارات الأمريكية، عبر تعيين علماء من ذوى المكانة العالية كملحقين علميين، يمكنهم بالفعل المشاركة فى مثل هذه المشروعات.
الشراكة الفعالة
بالنظر إلى حالة التعليم والعلم فى الدول ذات الأغلبية السكانية المسلمة، يجب أن تتجاوز الشراكة مع الولايات المتحدة مسألة «منح الأموال». ذلك أن الأمر المساوى فى أهميته لتمويل المشروعات يتمثل فى مشاركة الولايات المتحدة فى بناء القدرات البشرية والبنية التحتية.
ويتطلب ذلك نوعا جديدا من الشراكة، يتجاوز ورش العمل وعمليات التبادل بين المسئولين التى تتم على نحو زيارات احتفالية ومتقطعة. ربما يجب تطبيق «نظام التفرغ» السائد فى الولايات المتحدة، على العلماء والمهنيين الآخرين، من أجل إدارة عملية المساعدة فى الميدان، وتنفيذ مشروعات نموذجية.
فى الوقت الحالى تنخرط القوى العالمية الصاعدة الأخرى فى إقامة علاقات الشراكة وتأسيس برامج المساعدات. فعلى سبيل المثال، يقيم الاتحاد الأوروبى شراكة مع تركيا، بينما تقيم الصين شراكة مع أفريقيا والشرق الأوسط. إن احتفاظ الولايات المتحدة بتأثيرها فى الشرق الأوسط كقوة عظمى يأتى فى مصلحتها القصوى. ويمثل العلم والتكنولوجيا وسيلتين يمكن استخدامهما بطريقة فعالة فى تأسيس علاقات دبلوماسية، وإقامة تحالفات استراتيجية فى الأجل الطويل، وبناء علاقات شراكة مربحة.
وعن طريق الدبلوماسية يمكن أيضا الحصول على تمويل مهم لعمليات الشراكة فهذه الدول الموثرة فى العالم الإسلامى.
مراكز التميز
إن لمراكز التميز أهمية قصوى، كما أشار الرئيس أوباما فى خطاب القاهرة، ليس فحسب من أجل تعليم الشباب، بل أيضا من أجل تنشيط النمو لدى أى اقتصاد، ويوجد مثالان بارزان فى هذا الصدد، وكان لهما دور بارز فى دفع عملية التقدم، هما تجربة معاهد التكنولوجيا فى الهند، ومعهد التكنولوجيا المتقدم فى كوريا الجنوبية. وقد استفاد كلاهما من المشاركة الأمريكية. وفى الشرق الأوسط، لدينا مثالان يشيران إلى مثل هذا التأثير فى العملية التعليمية الجامعية Undergiadnate eduction، هما الجامعة الأمريكية فى القاهرة، والتى أعرف عنها الكثير كعضو من أعضاء مجلس الأمناء بها، والجامعة الأمريكية فى بيروت، التى قمت بزيارتها فى مناسبة أكاديمية وتمثل الجامعتان مؤسستين بارزتين أصبحتا مصدرا رئيسيا لبناء القدرات، حيث أصبح خريجو الجامعتين قادة فى المهن المختلفة، كما تلعب هاتان المؤسستان، اللتان تشهدان على جهود الشراكة الأمريكية. دورا مهما أيضا على صعيد التبادل الثقافى والإثراء المعرفى.
ومن بين المؤسسات المثيرة للإعجاب التى قمت بزيارتها وحدة الأبحاث الطبية التابعة للبحرية الأمريكية فى القاهرة، التى تلعب دورا فى العلاقات الخارجية للحكومة الأمريكية فى المنطقة، عبر الأبحاث المشتركة التى تقوم بها فى مصر والدول المجاورة. وتقوم الوحدة بتسهيل إجراء الأبحاث حول الأمراض المعدية. بما فى ذلك دراسات على فيروس إنفلونزا H1 N1. هذه الأعمال تتم بواسطة مهنيين، الغالبية منهم مصريون فى شراكة مع مهنيين أمريكيين يقيمون فى القاهرة. ومنذ الحرب العالمية الثانية، قدمت البنية التحتية للوحدة، بما فيها المكتبة الطبية، مساعدات كبيرة للمؤسسات الأخرى فى البلدان وللمنطقة ككل.
وفى رأيى يجب أن تكون لدى الولايات المتحدة خطة متواصلة وطويلة الأجل لإقامة مراكز التميز، خاصة المراكز التى باستطاعتها إرساء الأسس العلمية لعمل انتقال فعلى للمعرفة إلى السوق، وفى كل البلدان التى زرتها، تلقيت مقترحات بشأن مراكز التميز، وبالجهود المركزة والموجهة للولايات المتحدة فإنه يمكن أن تحدث أثرا تحويليا فى هذا الجزء المهم من العالم.
ومن أهم تأثيرات الشراكة مع الولايات المتحدة هو أن هذه المراكز سوف يمكن لها أن تتحرر من القيود والقواعد البيروقراطية عن طريق الاتفاقات الملزمة قانونا بين الحكومات، وهو ما يخلق المناخ الفكرى الحر المطلوب للابتكار.
خاتمة
عندما كنت شابا ينضج على ضفاف النيل، كنت وأقرانى نتصور قصة النجاح الأمريكية، بما فى ذلك التقدم العلمى والتكنولوجى المذهل والمثير للإعجاب، باعتبارها قصة تقتصر جذورها حصريا على النظام السياسى والاقتصادى الأمريكى، وفقط عندما انتقلت إلى الولايات المتحدة عام ١٩٦٩ أصبحت أدرك أن التقدم فى أى مجتمع تمتد جذوره العميقة فى القيم الثقافية «cultural values» لهذا المجتمع، وفى قدرته على المواءمة بين العقل والعقيدة «Reason&faith».
إن الإسلام فى حالته الأصلية لم يكن مصدرا للتأخر، بل كان العالم الإسلامى قبل قرون موطن انبثاق حضارات عظيمة، شهدت ظهور جامعات وعلماء من الطراز العالمى، كما كان هو نفسه الإسلام الذى احترم واحتفظ بالميراث الثرى القديم للحضارة الإغريقية واليونانية ونقل هذا الميراث إلى أجيال المستقبل، وهو ما مهد لعصر النهضة فى أوروبا الغربية. واليوم يوجد فى الغرب العديد من المسلمين، الذين تفوقوا فى جميع المجالات تقريبا. وإذا كنت قد تعلمت شيئا من تجربتى باعتبارى نشأت فى الشرق وأعمل فى الغرب، فهو أن السعى إلى المعرفة الجديدة والتمتع بالحكم الرشيد هما طريق التقدم، ويجب على العالم الإسلامى غرس هذه القيم لكى يستعيد ميراثه، ويأخد المكانة المستحقة فى المنظومة الدولية الحديثة. وبالرغم من أن العديد من الدول الإسلامية تمتلك ثروات بشرية وطبيعية، فمن الواضح أن هناك حاجة ماسة إلى نهضة ثقافية، ففى نهاية المطاف المسلمون هم المسئولون عن مصيرهم!
إن لدى رئاسة أوباما القدرة على دفع بداية جديدة، وأعتقد أنه يمكن تحقيق إحراز التقدم المنشود، وفى هذا الصدد أود أن أقترح ثلاث دعائم لرؤية سياسة جديدة:
أولا: يجب إقامة سياسة مترابطة وشاملة، ليست مجزأة، فيما يخص الدبلوماسية العلمية فى البلدان ذات الأغلبية المسلمة، ويجب أن تركز المشاركة فى «العلم فى الدبلوماسية» على مجالات التعليم والعلم والتكنولوجيا المهمة لأجل بناء القدرات والتقدم الاقتصادى، وأقترح برنامجا جديدا يمكن أن يسمى «إصلاح التعليم والتنمية» Reformation of education and development واختصاره
READ
«اقرأ»، وهو ما يمثل أهمية خاصة جدا لكل مسلم، حيث إن «اقرأ» هى أول ما نزل فى القرآن الكريم.
ثانيا: إنشاء شراكة فعلية لإقامة مراكز التميز النموذجية فى الشرق الأوسط والمناطق الأخرى تعمل بمثابة شبكة تربط بين المعلومات بين الدول، وقد ناقشت إمكانية ذلك مع العديد من رؤساء الدول والحكومات، وحصلت على تعهدات من العديد منهم، وتحتل هذه المراكز أهمية حاسمة فى استعادة الثقة وإقامة اقتصاديات ترتكز إلى المعرفة، ويمكن أن تكون تلك المراكز مصدرا للاستنارة الفكرية فى عصر القلم. وبالطبع سوف تقف شاهدا على الشراكة الأمريكية الحقيقية وتساعد فى تحقيق السلام العالمى.
ثالثا: يجب أن تؤكد الولايات المتحدة التزامها الثابت بقضايا حقوق الإنسان والحكم الرشيد.
وهى القيم الدستورية الأمريكية. واليوم بالرغم من أن الناس فى العديد من الدول الإسلامية يطالبون بالتغيير، فإن أيديهم غالبا ما تكون مقيدة بفعل السياسات الداخلية القابضة. بل وفى بعض الأحيان العقابية. وفى الشرق الأوسط لابد من الوصول إلى خطوات ملموسة من أجل حل قضية الصراع الفلسطينى ــ الإسرائيلى. هذا سوف يحفز هذا الفعل السياسى، والذى يمكن أن يجرى تخطيطه بالتوازى مع برنامج READ على تحقيق التقدم المرغوب بتوجيه طاقات الكثير من المسلمين من أجل إقامة مجتمعات منتجة اقتصاديا ومتطلعة إلى المستقبل.
لقد احتفت مناطق كثيرة فى العالم الإسلامى بانتخاب الرئيس أوباما. وتأمل هذه الشعوب فى بداية جديدة يكون جوهرها الرؤية التى طرحها فى خطاب القاهرة حول التعاون والأمل والاحترام المتبادل، وفى اعتقادى أنه إذا تم التوصل إلى نتائج ملموسة وفعالة فإن هذه الرؤية سوف تدخل معجم التاريخ باعتبارها ساعة الصفر zero hour للانتقال إلى عهد جديد من التغير الإيجابى الحقيقى فى العالم الإسلامى الذى يضم 1.5 مليار نسمة ولدور العلم من الدبلوماسية العالمية.
شكر
أود أن أعبر عن تقديرى للدعم الذى تلقيته من زملائى فى مجلس الرئيس الاستشارى بالبيت الأبيض، وبشكل خاص جون هولديرن وهارولد فارموس وإيريك لاندر. وأتوجه بالشكر لجاسون راو وستيف فيتر فى البيت الأبيض، وبيل لورانس ومانو بالا من الخارجية الأمريكية، والسفراء والعاملين فى السفارات، على كل المجهود الذى قدموه، خاصة خلال أسابيع سفرى الخمسة.
كتبت هذه المقالة باللغة الإنجليزية بدعوة Invited commented من مجلة «Cell» العالمية فى 6 أبريل 2010، عن طريق دار نشر السفير Elsevier، وترجمت بدار «الشروق».