أذكياء و لكن ..
قال لي أحد الأصدقاء مرة و أنا أساله عن حال شَعره الذي أصبح شبه غائب عن الأحداث في فروة رأسه .. قال ساخراً : إما الشعر .. و إما الذكاء ! (مع إجلالي و تقديري لكل من يشكون من ارتفاع منسوب الشعر و ارتفاع منسوب الذكاء في الوقت نفسه) ، و على الرغم من أنه قالها دون أن يلقي لها بالاً إلا أنني أعتقد أن ثمة مغزى يمكن أن أستشفه من وراء حديثه ، و هو في جزء منه ذو دلالة منطقية معروفة لدى الجميع .. فكل ميزة تحصل عليها في هذه الحياة لا بد أن تدفع في مقابلها ضريبة ما . إن الذكاء هو أحد المهارات العقلية و الدماغية العليا في آن معاً ، و قد ميزت بين الصفتين العقلية و الدماغية بسبب أن الذكاء هو ملكة من الملكات عند البشر ، و غير البشر كذلك ، ممن ليس لهم عقول تعي ، من الحيوانات ..! بل إن بعض الأشجار و النباتات تملك حداً معيناً من الذكاء ، فما بالك بالإنسان الذي مهما بلغت درجة تخلفه العقلي في بعض الأمراض مثل المنغوليا ، فإنه من الممكن أن يتمتع بمعدل ذكاء يصل في بعض الأحيان إلى 40-71 (IQ = 40-71) ، و هذا يعني أن الطفل المنغولي في هذه الحالة يمكن أن يكون أذكى من نسبة من الأطفال في مثل سنه في المجتمع . و ربما يكون الإنسان ، في رأي بعض العلماء ، قد دَفع نتيجة لذكائه الدماغي و تطوره العقلي الكثير من الضرائب خلال فترة مكوثه النهائية في الأرض منذ حوالي 15 ألف عام ماضية ، من بينها أنه تخلى عن القوة العضلية الكبيرة التي تتمتع بها الكثير من المخلوقات ، فالإنسان بحد ذاته مخلوق ضعيف و ضئيل قياساً بمن استعمر الأرض في الأزمان السحيقة و للكثير من المخلوقات في الزمن الحالي ، و ربما اضطر للتخلي عن السرعة الهائلة في الركض فيما لو كان يمشي على أربع ، فتحمل مشاكل آلام الظهر التي نجمت عن امتشاق قامته و وقوفه بالشكل الذي يميزه عن سائر المخلوقات ، و ربما تخلى عن الطيران إذ زاد حجم مخه كثيراً قياساً بحجم المخيخ على عكس ما هو حاصل مع الكائنات التي تطير ، و ربما تخلى عن التمائل بين نصفي كرتيه المخيتين إذ نشأ في أحدهما مركز الكلام .. الأمر الذي ألغى هذا التمائل و جعل من أحد النصفين مسؤولاً عن الحساب و المنطق .. و هو النصف الذي يوجد فيه مركز الكلام عادة ، و الآخر مسؤولاً عن الإبداع و الخيال و الفنون و الملكات الأخرى . قلت لصديقي : إذا كنت تستأنس في نفسك كل هذا الذكاء قياساً بما لا أرى على رأسك من شعر .. فلماذا لا تنتسب إلى نادي مينسا الدولي للعباقرة ؟ فهذا النادي يضم الأشخاص الهائلي الذكاء و المفرطي العبقرية ، أي زملاءك و نظراءك ، و من جميع أنحاء العالم . فقال لي : لا أريد أن أعير عقلي أياًَ من الاهتمامات التي يمكن أن تشغل فيه حيزاً غير مفيد أو حتى مضر ! فالعقل مثل دلو ماء.. إما أن تملأه بالماء العذب النقي الطاهر ، أو بالماء العكر الآسن .. و كما هو واضح .. لا يمكن لكليهما أن يجتمعا في إناء واحد ! . فتأملت فيه ملياً و بدأت اعتقد بصحة نظريته حول الشعر و معدل الذكاء ، ثم تابع : كما أنني أريد أن أنمو و أكبر بشكل طبيعي و بين أقراني و كما أنا ، و لا أريد أن يعاملني الناس على أنني شيء ما خارج عن المألوف ! . فسألته مترقباً : و هل الذكاء الشديد .. خارج عن المألوف ؟ . فأجاب على الفور : أكيد ! كم يبلغ معدل ذكاء الناس بشكل طبيعي في مجتمع ما ؟ فقلت : 75-110 % ، فقال : و كم يبلغ معدل ذكاء المنتسبين لهذا النادي ؟ فقلت : وسطياً بين 150 و 185% حسب العمر ، علماً أن بعضهم وصل معدل ذكائه إلى 220%. فقال : و هل ترى هؤلاء طبيعيين .. و غير خارجين عن المألوف ؟! فقلت : حسب وجهة نظرك هذه .. هم خارجون عن المألوف ، و لكن للأعلى و ليس للأسفل ! فقال متهكماً : ألستم يا معشر الأطباء تعتبرون " الزايد أخو الناقص " ..!؟ أليس الطفل الذي يولد بغياب إحدى كليتيه يعامل من حيث الاعتبار كالطفل الذي يولد بأربع كلى !؟ ألا تعالجون الطفل الشديد النحافة و الشديد البدانة .. !؟ ألا تعدون كلاً من قصير القامة و العملاق بحاجة إلى تدخل و استشارة طبية ..!؟ فقلت له : إذاً أنت تعتبر العبقرية ضرباً من ضروب التخلف العقلي !؟ فقال : إن المعلن عن عبقريته متخلف ! . فتذكرت عندها الطفلة السنغافورية سيليستين تشوا التي أصبحت من أصغر أعضاء النادي بعمر سبع سنوات ، و ذلك بعد أن تكتم أبواها عن نبأ عبقريتها لثلاث سنين ! ربما خوفاً من الحسد ..!؟ لا أدري ، و إن أصغر أعضاء النادي هو الطفل البريطاني بن وودز الذي أصبح عضواً في النادي بعمر سنتين و ثمانية أشهر و ذلك في عام 1996 ، و ربما كونه لم يطلب انضمامه للنادي بل أبواه اللذان فعلا ذلك .. ربما يثبت ذلك عبقريته بالفعل ..! إنهم أطفال عاديون و طبيعيون ، بيد أنهم يعانون قليلاً من ارتفاع معدلات ذكائهم الأمر الذي .. فقاطعني صديقي قائلاً : .. الأمر الذي يجعل من الأسهل عليهم تجمعهم في ناد يضمهم و يضم أمثالهم من العباقرة و الأذكياء ، و لا أنبئك عن مثل هذه التجمعات .. التي ربما تنوء بأصحابها .. فقد يتكلم الطفل منهم قبل أن تبزغ أسنانه ، و قد يتمكن من استعمال الحاسوب قبل أن يحبو ، و قد يذهب إلى المدرسة .. فيما أقرانه يتعلمون نفخ شمعة عيد ميلادهم الأول ، و ربما يخترع هؤلاء الأطفال لعبة عوضاً عن أن يلعبوا بها ، و قد يتسلون بالهندسة و الجبر و الكيمياء ، و ربما يقضون السهرة و هم يحاولون أن يكتشفوا لغز النظرية النسبية العامة و مفارقات آينشتين و سقوط العنصر رقم 118 من الجدول الدوري ..! . فقلت له : كلا .. كل ما في الأمر أن أحدهم يكون أكبر سناً في ذكائه من عمره ، و كل شيء نسبي !.. على الرغم من إمكانية أن يكون من بينهم من هو في مثل مواصفات من ذكرت .. إلا أنهم عادة ما يصبحون أناساً عاديين نوعاً ما من حيث معدلات الذكاء لدى دخولهم العشرينات من العمر ، أو انهم أذكى بقليل ، بيد أنهم يحتفظون بعضويتهم في النادي على الرغم من ذلك ، فوالد الطفلة سيلستين عضو في النادي ، و أخوها الذي يكبرها عضو كذلك منذ أن كان صبياً في الخامسة من عمره ! . فسألني : و هل يمكن أن يكون الأمر ذا علاقة بالوراثة ؟ فقلت له : يمكنك اعتبار ذلك ! فقال : و لماذا تنخفض معدلات ذكائهم مع تقدمهم في العمر ؟ فقلت له : كلامك صحيح إلى حد معين ، فالمتعارف عليه أن درجة الذكاء و حسب المصطلح الطبي تكون على أشدها عند المرء ما بين عمري 15 و 21 عاماً ، و لا شك أن الطفل يكون أكثر قدرة على الملاحظة و الاستنتاج و الانتباه الدقيق من البالغين ، و هذا عند جميع الأطفال الأصحاء عموماً ، كما أن براءة الطفل و صفاءه تلعب دوراً في ذكائه ، فهو يسأل الأسئلة بغير انقطاع .. و لا يعرف معنى للحدود في ذلك ، الأمر الذي يساهم في تطوير قدراته المعرفية ، و تحفيزه على متابعة أسلوبه و منهجه في البحث ، فالطفل منذ أن ينهي شهره الأول يبدأ بالتحول إلى مخلوق مفعم بالفضول و باحث بدون كلل أو ملل عن أي شيء ، و مستكشف بلا هوادة لمحيطه ، غير آبه بالأخطار ، و غير متوقع لسوء العواقب أحياناً ، و قد أجري مسح استقصائي على مفهوم الإبداع عند الأطفال في الولايات المتحدة الأمريكية ، و هو مفهوم يمكن ربطه إلى حد ما بالذكاء ، و وفق معايير معينة ، تبين أن ما لا يقل عن 90% من الأطفال دون سن الخامسة هم حقاً مبدعون ..! و لكن بعد ذلك مباشرة .. أي في الفئة العمرية من خمسة سنوات و حتى عشرة سنوات .. تنخفض هذه النسبة إلى 10% فقط !! لتتابع انخفاضها إلى حوالي الخمسة بالمئة في الثلاثينات من العمر .. و أقل من 1% فقط من الأشخاص في الأربعينات من العمر هم حقاً مبدعون ..! و قد تضحك إن علمت أن الشيء الوحيد الذي يطرأ على جميع الأطفال في عمر الخمسة سنوات و يفسر بشكل معقول انخفاض الملكات الإبداعية لديهم هو دخولهم المدرسة .. حيث يخضع نظام تفكيرهم و عقليتهم المبدعة للانهيار بالاختلاط مع أقرانهم ، ناهيك عن دور محتمل في المدرسة و المدرسين و المناهج أحياناً في الحد من الإبداع الفكري و الخيال الخصب لدى الطفل .. هذا إضافة إلى اصطدامهم بالأعراف الاجتماعية و ضرورة تأديبهم بالشكل الذي يمكن أن يترافق بالتأثير على إبداعاتهم ، و على الرغم من كل ذلك .. فكلما كنت طفلاً .. كلما كنت مبدعاً و خلاقاً ! . هذا من حيث العمر ..! . فقال الصديق : و هل هناك حيث آخر ..؟ . فقلت له : نعم ! فمن المعروف أن الصلع و الشعر الخفيف من صفات الذكورة ، أو لنقل إنها ضريبة الذكورة ، إن كانت الذكورة شيئاً تدفع له ضريبة ! و إن بعض الأمراض التي تصيب الإناث و تترافق مع صفات ذكورية .. تترافق أيضاً بنوع من الصلع يعرف بالصلع الجبهي ، و ربما تكون المعدلات المرتفعة من الهرمونات الذكرية هي السبب في ظهور الصلع عموماً إضافة إلى الخلفية العائلية و الإرثية . فقال صديقي : أي أنه كلما كنت أصلعاً .. كلما كنت ذكراً ..! . فقلت له : ربما يكون هذا صحيحاً من ناحية مجردة و لفظية فقط ! ، و من المعروف أن حجم الدماغ عند الذكر و وزنه أكبر من مثيله لدى الأنثى ، و هذا لا يعني الاختلاف في معدلات الذكاء بين الجنسين على الرغم من أن الجنس اللطيف يتميز ، إضافة إلى معدلات الذكاء لديه و المماثلة للمدلات عند النوع الغليظ ، بأنه ذو قدرة أكبر على الصبر و المثابرة و لا سيما فيما يتعلق بتحصيل العلم ، و ذلك إن هيأت الفرصة لبناته و تمت رعايتهن بشكل مناسب ، و الخلاصة .. أنه إذا كان شعرك أخف .. فأنت ذكر أكثر .. و بالتالي لديك دماغ أكبر .. و فرصة بأن تكون أكثر ذكاءً . فانفرجت أسارير صديقنا و بادر بالقول : إذاً .. لم تكن نظريتي خاطئة في النهاية ..! . فقلت له ممازحاً : إنك ذكي بالفطرة ..! فقال لي و عليه علائم الجدية : إذاً قم و عجّل ! فقد نسيت مفتاحي هذا على هذه الطاولة ، سأسارع إلى البيت قبل أن تغادر زوجتي ..!